مقدمةالعقد في الفقه الإسلامي هو قانون المتعاقدين فلا يفسخ ولا يعدل إلا باتفاق الأطراف والتراضي بينهم لقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) المائدة 1، وقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ۚ) النساء 29 ، وكذلك في القانون الوضعي فالقاعدة أن العقد شريعة المتعاقدين لا يمكن نقضه أو تعديله إلا باتفاق الاطراف ، ولما كانت عقود التجارة الدولية تتميز بأنها عقود طويل الأجل فقد تتعرض أثناء تنفيذها، إلى كثير من المخاطر والصعوبات نتيجة لأحداث طارئة عالمياً أو محلياً تجعل أحيانا تنفيذ الالتزام مستحيلا بصورة نهائية، أو أن تكون استحالة التنفيذ حادثا مؤقتا، مما يؤدي إلى الإخلال بقاعدة التوازن العقدي بين طرفيه. ومن بين تطبيقات ذلك يمكن استحضار فيروس كورونا المستجد الذي أثر على الكثير من العقود التجارية |
لقد سبقت الشريعة الإسلامية غيرها من الشرائع بالأخذ بنظرية الظروف الطارئة، ذلك لأن الشريعة الإسلامية تقيم أحكامها على أساس العدالة والرفق بالناس ورفع الحرج عنهم، وإن لم يرد فيها نظرية عامة للحوادث الطارئة على النحو الوارد في القوانين الوضعية، إلا أنه عرف نظرية الضرورة ؛ وتفترض هذه النظرية أن عقدا ما قد أبـرم في ظل الأحوال العادية، فإذا بالظروف الاقتصادية التي كانت أساسا يرتكز عليه توازن العقد وقت تكوينه قد تغيرت بصورة لم تكن في الحسبان، فيؤدي هذا التغير في الظروف إلى أن يصبح تنفيذ العقد ليس مستحيلا وإنما مرهقًا للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة
وأساس تلك القاعدة الأصولية: الضرر يُزال و مرجعها قوله (صلى الله عليه و سلم ) لا ضرر ولا ضرار، وقد نادى الأستاذ السنهوري أيضا إلى الأخذ بنظرية الظروف الطارئة استنادا إلى نظرية الضرورة في الشريعة الإسلامية، وهي نظرية فسيحة المدى تتسع لنظرية الظروف الطارئة، وهي تماشي أحدث النظريات القانونية في هذا الموضوع. ولها تطبيقات كثيرة استحداثها الفقه الإسلامي ذات أركان وشروط وحلول تنهض بمبادئ العدالة، ومنها نظرية العذر و الطوارئ في عقد الإيجار و عقد المعاملة حيث يفسخ عقد الإيجار للعذر ،و نظرية الجوائح في بيع الثمار حيث ينقص الثمن بقدر معين عملا بمبدأ التوازن وهو الأخذ بمقدار ما أعطى ”الغنم بالغرم
وقد تناولت العديد من القوانين الوضعية تقنين نظرية الظروف الطارئة ، حيث نصت عليها المادة 249 من التقنين الاماراتي ، والمادة 147 من القانون المدني المصري و المادة 148 في التقنين السوري بالنص الوارد في القانون المصري، وكذلك المادة 171 من التقنين القطري ، والمادة 205 من القانون الأردني، والمادة 107 من القانون الجزائري ، والمادة 147 القانون الليبي ، واتفقا جميعا على أحكام وشروط تطبيق تلك النظرية بانها حوادث استثنائية عامة، ولم يكن في الوسع توقعها، وترتب على حدوثها أن تنفيذ الالتزام التعاقدي، وإن لم يصبح مستحيلا، صار مرهقا للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة، وتتشابه نظرية الظروف الطارئة في كثير من وجوهها مع نظرية الضرورة في الفقه الإسلامي. والتي بنيت على أحكام العذر في الفقه الحنفي والجوائح في الفقه المالكي و الحنبلي
أما في دول القانون المشترك (common Law) (مثل إنجلترا، الهند، أستراليا، الولايات المتحدة الأمريكية) يشار إليه غالبًا باسم “شرط المشقة”(hardship). ولكن يختلف عن نظرية “الظروف الطارئة” في أن شروط المشقة لا يمكن تطبيقها ولا تنتج أثارها إلا من خلال النص عليها بالعقود كبند بالعقد ، في حين أن نظرية “الظروف الطارئة ” لها أساس تشريعي فتُطبق إذا توافرت أركانها حتى وإن لم ينص عليها بالعقد، كمبدأ قانوني
والمقصود بالظرف أو الحادث الطارئ هو كل حادث عام، لاحق على تكوين العقد، وغير متوقع الحصول عند التعاقد، ينجم عنه اختلال بيِّن في المنافع المتولدة عن عقد يتراخى تنفيذه إلى أجل أو آجال، ويصبح تنفيذ المدين لالتزامه كما أوجبه العقد يرهقه إرهاقاً شديدًا، يهدده بخسارة فادحة تخرج عن الحد المألوف في الخسائر
باستخلاص ما نصت عليه القوانين الوضعية في كل منهما نجد أن الفرق بين الحادث الطارئ والقوة القاهرة، وإن كانا يشتركان في أن كلا منهما لا يمكن توقعه ولا يُستطاع دفعه، إلا أنه الفرق بينهما يكمن في أن القوة القاهرة تجعل تنفيذ الالتزام مستحيلا، أما الحادث الطارئ فيجعل التنفيذ مرهقا فقط، ويترتب على هذا الفرق فرق أخر في الأثر، إذ القوة القاهرة تجعل الالتزام ينقضي فلا يتحمل تبعة عدم تنفيذه، أما الحادث الطارئ فلا يقضي الالتزام بل يرده إلى الحد المعقول فتتوزع الخسارة بين المدين والدائن ويتحمل الدائن شيئا من تبعة الحادث. وبتطبيق ذلك على جائحة فيروس كورونا فنحن نرى أن التكييف القانوني لا يختلف من دولة إلى دولة فحسب بل ويختلف من عقد إلى عقد بناء على مدى استحالة تنفيذ الالتزامات
يُقصد بالتوازن الاقتصادي للعقد أن تكون حقوق و التزامات الاطراف وقت إبرام العقد قد نشأت بطريقة تجعلها متوازنة مالياً وتوازن الاعباء التي يتحملها المتعاقدين والمزايا التي ينتفعوا بها ، فإذا ما واجه أحد الاطراف العقد ظرف طارئ سواء كان اقتصادي أو طبيعي أو إداري فإنه يكون له الحق في أن يلجا إلى القضاء أو التحكيم لإعادة التوازن المالي للعقد. فإن تحقيق ربح مضاعف مقابل خسارة فادحة لا يمكن أن يكون هو النتيجة الطبيعية والمقبولة لأي عقد.
وبالنظر لما يحتله التوازن الاقتصادي للعقد من أهمية كبيرة في مجال العقود بشكل عام، وعقود التجارة الدولية بشكل خاص، فكل عملية تجارية دولية يجب أن تقوم وتؤسس على مبدأ التوازن والتناسب بين الأداءات التعاقدية المتقابلة، وهذا ما حدا ببعض الفقه إلى القول بأن مبدأ التوازن الاقتصادي للعقد يشكل عصب قانون التجارة الدولية
إذا طرأ أي تغير في الظروف المصاحبة لتنفيذ العقد، فإن ذلك سيؤثر على التزامات الطرفين المتعاقدين، بحيث يجعل تنفيذ الالتزامات مرهقا للمدين، مما يهدده بخسارة فادحة إن واصل التنفيذ على شكله القائم، كما أن عدم التنفيذ في مثل هذه الأحوال يعد خرقا لمبدأ استمرار واستقرار المعاملات التجارية، ويؤدي إلى الإخلال بقاعدة التوازن العقدي بين طرفيه. مما يتطلب إعادة النظر في تلك العقود ، الأمر الذي دفع العديد من التشريعات الوضعية لمواجهة تلك السلبيات بغرض إعادة التوازن الذي اُختل بسبب تغير الظروف تحقيقاً للعدالة مع مراعاة بعض الضوابط التي تتمثل في مراعاة القاضي للظروف المحيطة والموازنة بين مصلحة الطرفين. وذلك عن طريق تطبيق أحد الحلول الأتية
رد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول –
إما بوقف تنفيذ العقد حتى يزول الحادث الطارئ إذا كان مؤقتا ، وهذا يتفق مع ما قرره المجمع الفقهي الإسلامي، فقد جاء في القرار السابع ما نصه : ويحق للقاضي أيضا أن يمهل الملتزم إذا وجد أن السبب الطارئ قابل للزوال في وقت قصير، ولا يتضرر الملتزم له كثيرا بهذا الإمهال
إما يكون بزيادة الالتزام المقابل للالتزام المرهق ، وهذا يوافق كذلك ما قرره المجمع الفقهي الإسلامي في ذات الموضوع في قراره السابع الذي نص فيه: فإنه يحق للقاضي في هذه الحال عند التنازع، تعديل الحقوق والالتزامات العقدية، بصورة توزع القدر المتجاوز من الخسارة على الطرفين المتعاقدين
إما انقاص الالتزام المرهق ، وفي ذلك أجاز الفقه الإسلامي إنقاص الالتزام بسبب الحادث الطارئ في العذر الطارئ ، والجوائح ، حيث يوضع عن المشترى من الثمن بمقدار ما أصاب ثماره المشتراة من جائحة
فسخ العقد –
وهذا يتوافق مع ما قاله ابن قدامة رحمه الله تعالى: “ولو استأجر دابة ليركبها، أو يحمل عليها إلى مكان معين، فانقطعت الطريق إليه لخوف حادث، ، فله فسخ الإجارة”. وهكذا نجد أن نظرية الظروف الطارئة تتشابه في كثير من وجوهها مع احكام العذر و الجوائح في الفقه الاسلامي
إذا كانت التغيرات في الظروف المحيطة بالعقد لها أثر واضح على المستوى الداخلي فإن الأثر يتفاقم ويزداد على المستوى الدولي. ونجد أن أطراف العقود التجارية الكبرى ، كثيرا ما يحبذون اللجوء إلى التحكيم أو الوساطة أو الصلح ، لتكون بديلا عن القضاء في حل وتسوية النزاعات التي قد تنشأ بينهم، لما يتسم به الأول من سرعة ودقة في الأحكام التي يصدرها.فإعطاء القاضي سلطة تعديل العقد في الحدود المنصوص عليها في القانون، لا يتماشى مع واقع عقود الاستثمار أو التجارة الدولية، التي تتضمن في أغلبها شروط اللجوء إلى التحكيم ، إذ يلعب التحكيم دور مهم في السعي نحو تحقيق التوازن الاقتصادي للعقود الدولية حتى تخلق نوعاً من الاطمئنان على صعيد المعاملات التجارية. فإن اللجوء إلى إعادة التفاوض لتغيير شروط عقود الاستثمار في ظل القوة القاهرة أو الظروف الطارئة، يعد أفضل من اللجوء إلى القضاء والحصول على حكم قسري من وجهة نظر أحد الطرفين
اما الاشكالية تظهر أحيانا إذا كان القانون الواجب التطبيق على النزاع في التحكيم والذي يلتزم به المحكم لا يعرف نظرية الظروف الطارئة، و إذا كان الأصل يقتضي أن يتم الفصل في منازعات عقود التجارة الدولية المحالة على التحكيم وفقاً لأحكام القانون ، مع ذلك فقد فوض القانون طرفي النزاع الحق في تخويل المحكم صلاحية الفصل في النزاع وفقاً لما يراه محققاً للعدالة أو وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية
وهنا ايضاَ تبرز أهمية الصلح أو التحكيم مع التفويض بالصلح الذي نرى أنه يمثل الوسيلة الأمثل لمعالجة ذلك الاختلال و الحفاظ على بقاء العقد و لحل النزاعات المتعلقة بإعادة النظر في شروط التعاقد، وذلك بتقريب وجهات النظر بين الأطراف، حتى يتمكنوا بمعية المصلح من إيجاد حلول مناسبة للحالة التي أوجدتها تلك الظروف الجديدة، لرفع العنت و عدم الإنصاف الذي يتحمله أحد المتعاقدين مع التقييد بمعيار درجة التوازن الاقتصادي التي كانت موجودة قبل حصول حالة التغير في الظروف
By, Law & Bar Legal consultant Team
Published By law&Bar
For further inquiries, contact us contact@lawandbar.com
Leave A Comment